خمسون عاما تمر اليوم على يوم العمل الأول فى بناء السد العالى: كانت إشارة البدء هى تفجير جبل من الجرانيت.
ومنذ افتتاح السد العالى فى 1971 أصبحت يوميات العمل الشاق ذكرى فى أذهان من عاشوها وعاصروا زمانها. وبقى أن يحافظ عليها ويضمها أرشيف يؤرخ لها من أجل جيل لم يعش زمن السد ولم ير ناسه. سعد نصار أحد المهندسين الذين بقى فى ذاكرتهم أيام السد الشاقة وحمل أحلام شبابها، يتفرغ حاليا لجمع هذا التاريخ من أجل أجيال لم تعد تعرف شيئا عن الملحمة الكبيرة، لأنهم فى نظره «معذورون، كيف سيعرفون شيئا عن السد فى هذه الأيام؟ من سيحكى لهم؟»
كان عمره قد تجاوز العشرين بقليل عندما استقل القطار إلى أسوان ليتسلم عمله لأول مرة مهندسا مدنيا فى السد العالى مع «باشمهندسين» كثيرين غيره كانوا قد سبقوه.
قبل 9 أشهر كان عبدالناصر قد ضغط هو والرئيس السورى شكرى القوتلى والملك المغربى محمد الخامس ضغطة واحدة، وقد تلاقت أيدى الرجال الثلاثة ليفجروا 6 أطنان من الديناميت، لتنسف 20 ألف طن من الصخر وتحول مجرى النيل إيذانا ببدء العمل فى السد العالى، فى مثل هذا اليوم من 50 عاما.
خمسون عاما لم تفتر من حماس «الباشمهندس» سعد نصار الذى سافر إلى أسوان فى 4 أكتوبر 1960 بعد شهور من تخرجه فى كلية الهندسة جامعة الإسكندرية. زامله فى الرحلة رفاق جمعهم الحماس والحلم فلم يعودوا يفترقون طوال مشوار بناء السد.
ولعله النيل هو من دعاه إلى السد حيث إنه كان قد زار مدينة أسوان فى رحلة نظمتها الكلية فى نفس عام تخرجه، وعندما سار على كورنيش النيل هناك تمنى أن يعمل فى هذا البلد وقد كان له ما أراد.
بعد كل هذه الأعوام يستطيع «الباشمهندش» سعد نصار أن يتذكر الاسم الثلاثى لكل واحد من رفاقه دون أى عناء، إلا السيدات فيتذكر الاسم الثنائى لهن، مع أن عددهن لم يتجاوز عشرة فى كل المشروع العملاق. وربما أشهرهن الجيولوجية كوثر السبكى، والمحاسبة عواطف العاصى، ومديرة المكتبة مديحة القاضى.
«وكيف لا أتذكر الجميع ونحن عشنا سويا سنوات طوال قبل أن يتم افتتاح السد العالى فى عام 1971، بل وجمعنى بعدد كبير منهم السكن. كنا نقطن فى عمارة اسمها عمارة «العمدة» لأن صاحبها كان عمدة فى إحدى قرى أسوان، قبل أن تجهز الحكومة لنا مساكن خاصة. وقتها كنا نقضى ساعات طويلة نستخدم لمبات الجاز فى الإضاءة، لأن الكهرباء كانت تنقطع كثيرا قبل أن يكتمل السد ليدخل إلى مصر 10 مليارات كيلوات ساعة سنويا، ولكن أيام حفلة أم كلثوم الشهرية كنا نقضى الليل على نور الكلوب وذلك احتفاء بحفلة الست».
هكذا يحكى سعد نصار رئيس «جمعية بناة السد العالى» الذى يعكف هذه الأيام وحده على جمع أرشيف عن السد. يجمع كل ما تقع عليه يداه: صور، شهادات تقدير، أوسمة، كتيبات قديمة لدى من تبقى على قيد الحياة من بناة السد.
آخر ما استطاع أن يتحصل عليه مجموعة من الألبومات التذكارية التى احتفظ بها أبناء صدقى سليمان وزير السد العالى أو «فارس السد» كما اعتادوا أن يطلقوا عليه.
الفارس صدقى
ولعل صدقى سليمان كان فارسا بالفعل، ليس فقط لأنه قاد العمل فى ظروف شاقة وتصدى لمهمة تصعب على أعتى الرجال، ليحقق للمصريين حلما طالما اشتاقوا إليه.
لم يكن السد بالنسبة لصدقى سليمان مجرد مشروع لتوفير طاقة كهربائية رخيصة بتكلفة نصف مليم عند أسوان، ومليمين اثنين بعد نقلها إلى القاهرة، لتزيد الدخل القومى بنحو 175مليون جنيه. المشروع جاء لحماية مصر من خطرى الفيضانات والجفاف أيضا، ولتكوين بحيرة ناصر وهى ثانى أكبر بحيرات العالم التى صنعتها يد الإنسان، ولزيادة الرقعة الزراعية بمقدار 1.5 مليون فدان.
ما أدركه الفارس هو أن نجاح المشروع لا يعنى كل ذلك فقط، ولكن يعنى انتصار إرادة المصريين. كان البنك الدولى قد سحب الاتفاق الذى وقعه مع الحكومة فى سبتمير 1955 للمساهمة فى تمويل المكون الأجنبى، مشككا فى إمكانية تحقيق المشروع.، والذى قدرت تكاليفه الإجمالية 245 مليون جنيه.
الحقيقة أنه ليس هذا فقط ما جعل صدقى، ابن قرية السيفا بالقليوبية ــ فارسا. ولكن لأنه كان لديه من القيم ما يجعله يستحق اللقب الذى كتبه أعضاء جمعية بناة السد على غلاف كتيب أخرجوه عندما غيبه الموت فى27 مارس 1996. وراح كل واحد منهم يرثيه على طريقته. واختار سكرتيره الصحفى حسنى أمين أن يكتب مخاطبا صدقى سليمان وكأنه حى يرزق «لا أنسى يوم أن نقلوا محطة الأتوبيس من أمام منزلك بشارع الهرم، لأنك أصبحت وزيرا فطلبت إعادة المحطة لأنها لخدمة الناس ومصلحتهم تهمك أكثر من الرسميات والشكليات».
بينما فضل إسماعيل صبرى عبدالله وزير التخطيط الأسبق أن يكون رثاؤه لسليمان بالتذكير بموقفه من الرئيس عبدالناصر. «هو الوحيد فى اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكى الذى اعترض (فى1967) على قرار غلق مضيق تيران خشية من أن تشن إسرائيل حربا علينا، فهو لم يكن يجامل أو يزوق حتى فى مستوى علاقته برئيس الجمهورية»، تبعا لصبرى فى عام 1996 بعد موت الرجلين، الرئيس والوزير.
الوزير غاضبا
يحكى سعد نصار أنه «فى إحدى الأيام فى عام 1964وجدنا صدقى سليمان وزير السد العالى فى ذلك الوقت غاضبا وساخطا على مدير العلاقات العامة بهيئة السد، وأخذ يعنفه كثيرا. بعدها عرفنا أن ابن الوزير جاء فى رحلة مدرسية لزيارة السد وهو ما كان معتادا لكثير من المدارس، فقام مدير العلاقات العامة بعزومة طلاب الرحلة على جاتوه فى نادى التجديف. وعندما سأله الوزير: هل تقوم بعزومة كل الرحلات المدرسية الأخرى؟ فاعترف الموظف بأنه لا يفعل مع الجميع. فسأله عن تكاليف العزومة المدرسية، وكانت 25 جنيها و245 مليما، فدفعها صدقى سليمان من جيبه الخاص، وكتب شيكا لهيئة السد العالى بالمبلغ واعتبرها إهدارا للمال العام.
«هذه كانت شيم بناة السد» يقول نصار وقد أغرورقت عيناه بالدموع، مذكرا أنه فى كل مرة يروى فيها هذه الواقعة لا يستطيع أن يمنع نفسه من البكاء على هذا الزمن.
وربما كانت هذه الجنيهات بالفعل فى هذا الوقت إهدارا للمال العام؛ لأن راتب الباشمهندس نصار وأقرانه كان 34 جنيها، وبعد 10سنوات وصل إلى 70جنيها.
مازال نصار يحتفظ بصورة الشيك الصادر من بنك الإسكندرية من حساب صدقى سليمان لصالح الهيئة العامة لبناء السد العالى. «فى زمن السد كان دفع 25 جنيها لمجاملة الوزير إهدارا للمال العام لا يمكن السكوت عليه»، متحسرا يقول نصار.
ربما شاعت هذه الحكاية عن صدقى سليمان وكانت سببا فى اختياره بعد ذلك رئيسا للجهاز المركزى للمحاسبات فى عام 1971، حين عين الرئيس السادات وزيرا غيره للسد العالى وهو اللواء حلمى السعيد، الذى أرسل برسالة إلى الرئيس الراحل يرفض فيها المنصب، ويرى أن صدقى يجب أن يستمر بعد أن تحمل العبء الأكبر من بناء السد. وما حدث هو أن السادات أصر على اختياره.
علبة «نادلر»
«وعندما شعر صدقى سليمان بأن الأجور تتفاوت كثيرا بين العمال فى السد، أصدر تعليماته بإزالة هذه الفروق. وأتذكر أنه عندما تم تكليفى بتنفيذ هذه المهمة، وبدأت أبحث فى موضوع الأجور، وجدت أن هناك نجارا كان اسمه السعيد محمد على محرم آتى من بحرى يتقاضى 46 قرشا فى اليوم، بينما نظيره الذى أتى من القاهرة يحصل على أجر قدره 75 قرشا، فرفعت أجر الأول إلى 75 قرشا، ولكنى بعد ذلك خشيت أن أكون قد جاملته لأن نفس هذا النجار كان قد سبق وأن جاملنى عندما أجريت عملية جراحية قبلها بشهور بعلبة حلوى «نادلر» ثمنها 25 قرشا، وخفت أن أكون قد أنحزت له لمصلحتى الخاصة ولكن بعد أن توفى هذا النجار بعدها بوقت قليل فى حادث، أحسست أننى ربما أكون فعلت ذلك لأنه رزق أولاده بعد مماته».
يتذكر نصار ويقارن بين زمنين.
هذا عن فارس السد، يضيف نصار، أما عقل السد إبراهيم زكى قناوى الذى كان وزيرا للرى فقد ظل متعلقا بالسد وكان يسألنى وهو على فراش الموت: هو منسوب بحيرة ناصر كام النهاردة؟.
يشعر سعد نصار الآن بمرارة لأنه بالرغم من كل المحاولات التى قام بها منذ إنشاء جمعية «بناة السد العالى» فى عام 1985 وهو يسعى إلى إيجاد مقر لها لعله يساعد على الإبقاء على ذاكرة السد، أو ليحفظ فيه ما يمكن الحصول عليه. طلب مرارا من المهندس حسب الله الكفراوى عندما كان وزيرا للإسكان أن يوفر مقرا للجمعية وحتى لو كان متواضعا باعتباره عضوا فى الجمعية ولكنه رفض، وقال له: «هو إنت عايز يحيلونى للمدعى الاشتراكى».
ولكن ما يحزن سعد نصار أن أحفاده من ابنتيه لا يعرفون شيئا عن السد العالى، وعندما يحاول أن يحكى لهم عما فعل السد يسمعونه من باب المجاملة دون أن يعيروا الأمر اهتماما. «ولكن هم معذورون. كيف سيعرفون شيئا عن السد فى هذه الأيام؟ من سيحكى لهم؟» يقولها متحسرا.
ويشعر نصار بغصة فى حلقه من تجاهل المسئولين لمن تبقى من بناة السد على قيد الحياة حيث إنهم يحصلون على معاشات هزيلة تصل إلى 500 جنيه، لأن أجورهم فى ذلك الوقت كانت ضعيفة. ويطالبون الآن بمعاش استثنائى، حيث إن هذا المعاش يستحق لمن أدوا للوطن خدمات جليلة، أو الذين حصلوا على وسام الاستحقاق بجميع طبقاته، أو وسام الجمهورية بجميع طبقاته، أو الذين ضحوا أو بذلوا من أجل مصالح مجتمعية «وكلنا ينطبق علينا هذه الشروط» يقول نصار مطالبا القوات المسلحة بعلاجهم فى مستشفياتها وهو ما كانت تقوم بها أيام كانوا يعملون فى السد.