إن الله تعالى رفع شأن العلماء العاملين: فقال تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ (سورة الزمر آية 9).
وقال تعالى: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ (سورة المجادلة آية: 11).
ولقد أمر الله تعالى بتعلم العلم قبل القول والعمل؛ قال تعالى: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ (سورة محمد آية: 19).
فبدأ بطلب العلم قبل الاستغفار، وأول ما يبدأ به هو العلم بمعنى: ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ﴾ (سورة محمد آية: 19 ﴾، قبل العمل والاستغفار، لأنّه هو الأساس الذي تنبني عليه أمور الدين كلّها.
كان عمر بن الخطاب يقرب عبد الله بن عباسٍ ويدنيه إليه في مجالسه فقال بعض الصحابة لم تدنيه دون سائر أولادنا؟
فقال عمر: ((إنه فتى الكهول له لسان سؤول، وقلب عقول))،
وقد ورد عن عيسى عليه السلام أنه قال في مدح علماء أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم: ((علماء حلماء بررة أتقياء كأنهم من الفقه أنبياء))
فقوله: ((كأنهم من الفقه أنبياء)) دليل على فضل الفقه في الدين، والفقه معناه معرفة النفس ما لها وما عليها.
ومن هنا اتجهت همم أهل العلم إلى تعلم أحكام العقيدة وتعليمها، واعتبروا ذلك من أوليات العلم،
وألفوا فيها مؤلفات خاصة؛ فصّلوا فيها أحكامها وما يجب فيها، وبينوا ما يفسدها أو ينقصها من الشركيات والخرافات والبدع.
فقد يكون عدم المعرفة الحقيقية بالله - عز وجل - هو السبب أو الباعث على الرياء أو السمعة إذ إن الجهل بالله
أو نقصان المعرفة به يؤدي إلى عدم تقديره حق قدره: ومن ثم يظن هذا الجاهل بالله الذي لم يعرفه حق المعرفة
ولم يقدره أن العِبَاد يملكون شيئا من الضر أو النفع فيحرص على مراءاتهم وتسميعهم كل ما يصدر عنه من الصالحات
ليمنحوه شيئا مما يتصور أنهم مالكوه.
فالعلم مقدم على كل قول أو عمل كُلف به الإنسان، أو رام القيام به، وشرط في صحته.
وقال البخاري - رحمه الله - في صحيحه: ﴿ باب: العلم قبل القول والعمل ﴾، قال الحافظ ابن حجر: « قال ابن المنير:
أراد به أن العلم شرط في صحة القول والعمل؛ فلا يعتبران إلا به؛ فهو متقدم عليهما؛ لأنه مصحح للنية المصححة للعمل... ».
ولقد بين النبي فضل العلماء العاملين؛ حيث قال: ) من سلك طريقًا يطلب فيه علمًا
سلك الله به طريقًا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع،
وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد
كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا
إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر (.
قال ابن القيم - رحمه الله -: « العلم إمام العمل وقائد له, والعمل تابع له ومؤتم به, فكل عمل لا يكون خلف العلم
مقتديا به فهو غير نافع لصاحبه بل مضرة عليه, كما قال بعض السلف: من عبد الله بغير علم كان ما يفسد
أكثر مما يصلح ».
وقال بعض العلماء: تعلم العلم؛ فإنه يقومك ويسددك صغيرًا ويقدمك ويسودك كبيرًا، ويصلح زيغك وفسادك،
ويرغم عدوك وحاسدك، ويقوم عوجك وميلك، ويحقق همتك وأملك.
والواقع أن تقديم العلم على أي عمل ضروري للعامل حتى يعلم ما يريد ليقصده ويعمل للوصول إليه.
وإذا كان سبق العلم لأي عمل ضروريًا، فإنه أشد ضرورة للداعي إلى الله، لأن ما يقوم به من الدين منسوب
إلى رب العالمين. فيجب أن يكون الداعي على بصيرة وعلم بما يدعو إليه وبشرعية ما يقوله ويفعله ويتركه
فإذا فقد العلم المطلوب واللازم له كان جاهلا بما يريده ووقع في الخبط والخلط والقول على الله ورسوله بغير علم
فيكون ضرره أكثر من نفعه وإفساده أكثر من إصلاحه، وقد يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف لجهله بما أحله الشرع
وأوجبه وبما منعه وحرمه. فيجب إذن لكل داع إلى الله تعالى: العلم بشرع الله وبالحلال والحرام وبما يجوز وما لا يجوز
وبما يسوغ فيه الاجتهاد وما لا يسوغ، وما يحتمل وجهين أو أكثر وما لا يحتمل. والعلم ما قام عليه الدليل الشرعي
من كتاب الله أو سنة رسوله أو من أدلة الشرع الأخرى. وعلى المسلم أن يستزيد من هذا العلم الشرعي النافع ليعرف
موضوع دعوته وليكون فيها على بصيرة وبينة فلا يأمر إلا بحق ولا ينهى إلا عن باطل.
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.